top of page
جديد وحصري
جديد وحصري
حج الميتافيرس

سامح مبروك يكتب "حج الميتافيرس" من سلسلة ترندات وتوباكو*.
النداء الأخير للرحلة رقم EK816 والمتجهة إلى دبي، على السادة الركاب سرعة إتمام إجراءات الصعود إلى الطائرة.
هذا النداء الذي يُفزع الرجال والولدان ويهرولون بسببه في أروقة المطارات لإنقاذ رحلات أوشكت على الإقلاع دونهم، لم يكن له أي تأثير ولو طفيف في نفسي، وأتممت طريقي في اتجاه بوابة السفر بخطوات ملؤها الثقة التي تكاد تقارب الاستهتار مما استفز موظفي إتمام إجراءات السفر ولكني لم أبالي، وبالفعل كنت آخر من التحق بالطائرة، في عادة سخيفة التصقت بي لفترة ليست بالقليلة.
حقيقة لم يكن يشغل بالي أو يؤرقني سوى تساؤل وحيد، هل سأحظى بجيرة هادئة أم ستنقلب رحلة الفجر لكابوس مزعج؟ وكان مقعدي الخالي الذي ينتظرني يجاوره رجل جاوز الستين من العمر تفضح ملامحه جنسيته الهندية، فحييته بابتسامة لطيفة واتخذت مقعدي في هدوء، وأنا أجهش بالدعاء أن يلبسه الله رداء الهدوء والصمت، ولكن سرعان ما حدث ما تخوفته، ووقعت الفأس في الرأس، وباءت كل محاولاتي بالتهرب من خوض محادثة الطائرة السخيفة والمملة بالفشل.
وبعد المقدمات والأسئلة التقليدية التي لا مفر منها، فجأة فجر الجار الهندي قنبلة دمرت كل فرصة لإغلاق النقاش بسلام والاستمتاع بغفوة هنيئة، فقال بعفوية وجرأة غريبة:
-
لابد أنك من المقتنعين أننا -وأقصد هنا الهندوس- نعبد البقر، فهذا ما عهدته في الكثير ممن قابلت من المسلمين.
-
ما عهدته في بعض المسلمين قد يكون صحيحًا نسبيًا، ولكن جانبك الصواب حينما حسبتني على ذلك البعض، فأنا أعلم مدى قدسية البقرة في الديانة الهندوسية، كرمز ومصدر للخير والعطاء اللا محدود بلا مقابل، وأعلم أن جزء من تلك القدسية أتى من ارتباط البقرة بالإله كريشنا؛ إله الرحمة والحنان والحب واعتباره حامي البقر، ففي ديانتكم الإساءة للبقرة هي إساءة للآلهة ذاتها، أعلم جيدًا أنكم تقدسوا البقرة لا تعبدوها.
-
غريب، هل تعلم الإله كريشنا؟
-
نعم؛ كما أعلم أن الإله براهما هو الإله الأعظم الخالق في الديانة الهندوسية، وفيشنو هو الإله الذي يحفظ الكون ويحميه، وشيفا هو المدمر، ولاكشمي إلهة الثروة والنقاء، وساراسواتي إلهة العلم، وقد زرت العديد من المعابد الهندوسية من قبل ولدي فكرة عن الكثير من المعتقدات وقصص الآلهة في الديانة الهندوسية والتي -للعلم- تتشابه قصصهم مع قصص الكثير من الأنبياء في الديانات السماوية.
-
لقد شجعتني بهذا القدر من الانفتاح على المعتقدات الهندوسية، بأن أعرج على موضوع أثار في بالي الكثير من الدهشة لوقت طويل، لماذا يتسارع ويتصارع المسلمون كل عام، في موعد محدد، ومن كافة أنحاء العالم في الذهاب للحج في الكعبة بمكة؟ وبالنظر لضيق المكان واستحالة أن يستضيف سوى بضعة مليونات من المسلمين بينما تقدرون بالمليارات، لماذا لم تفكروا في استنساخ الكعبة في أكثر من مكان، لتيسروا على أنفسكم هذه الشعيرة التي أعتقد أنها من أعظم الشعائر في ديانتكم؟ ولعل الديانة الهندوسية بسماحتها ويسرها قد سبقت كافة الديانات في ذلك وسمحت باستنساخ مجسمات الآلهة ليستطيع الإنسان الدعاء والصلاة لإلهه في أي وقت وأي مكان.
-
دعني أسألك فيما انتهيت به، لماذا لم تتخلصوا من كل مجسمات الآلهة وتتيحوا لمعتنقي الديانة الهندوسية في العالم بالصلاة والعبادة والحج في الميتافيرس؟ فإنها طريقة أيسر وأرخص.
-
صديقي لا تدع إعجابي بانفتاحك ومعلوماتك عن الديانة الهندوسية يسمح لك أن تسخر أو تستهين بمعتقداتنا أو آلهتنا.
-
بالضبط يا صديقي، لا مجال للسخرية أو الاستهانة بأي من المعتقدات الدينية، ولكني سأعود لنفس النقطة التي طرحتها قبل قليل، وهي استنساخ مجسمات الآلهة، فإن كنت ترى هذا من تساهل وسماحة الديانة الهندوسية، فهل تعلم أننا نؤمن بإله المالتيفيرس؟؟ نعم يا صديقي، فقبل طرح هذا المصطلح من الأساس قال تعالى في كتابه الكريم في سورة البقرة -نعم- كما سمعت سورة البقرة، وهي ثاني سور المصحف الشريف وأطولها على الإطلاق، قال تعالى "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ"، فالمسلم أينما حل وأينما ارتحل يجد الله معه وإلى جواره، فالله هو المحيط الذي يستطيع المسلم أن يدعوه ويناجيه ويصلي له بدون صورة ولا مجسم ولا حجاب ولا ميعاد وفي أي مكان، سبحانه.
-
عظيم، ما دامت الأمور بتلك السهولة لماذا تعقدون الحج؟
-
وأنتم لماذا تحجون لنهر الجانج فقط؟ ولماذا تحرقون جثثكم عوضًا عن دفنها؟ لماذا مازلتم تلقون بأطفالكم من فوق أسطح المعابد لتعميدهم؟ وعلى الرغم من الاختلاف الشديد ما بين هذا وحج المسلمين الذي فرضه الله عز وجل لمشقته وكلفته فقط على المقتدر، وأعفى منه ما دون ذلك، فإن الحج شعيرة من شعائر الإسلام العظمى التي يجتمع فيها المسلمون في مكان واحد وعلى جبل واحد وبلباس واحد وبنداء واحد وفي وقت واحد ومرة واحدة، تلبيةً لدعوة إلههم الواحد، فما كان لمسلم أو غير مسلم أن يشكك أو يبتدع في كنه وقدسية وخصوصية هذا المكان أو يستنسخه أبدًا.
-
حقيقةً أشعر هنا بالكثير من التناقض، فأنت تؤمن بإله كما تقول مالتيفيرس، موجود في كل زمان ومكان، بينما تتشددون في الحج لمكان واحد على صعوبته.
-
تلك هي حال الشعائر يا صديقي عليك أن تتبعها وتحترمها مهما وجدتها غريبة من وجهة نظرك.
-
فعلًا إنها غريبة.
هنا قاطعت إحدى المضيفات الحوار الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يصل أي منا إلى إقناع الآخر وسألتني السؤال الشهير:
-
دجاج أو لحم؟
فأجبتها ببداهة شديدة:
-
لحم.
فوجدت صديقي الهندي قد احمرت عيناه واستعرض طولي وعرضي في نظرة استنكار شديدة، وفذ واقفًا وطلب من المضيفة بحدة تغيير مقعده على وجه السرعة.
* ترندات وتوباكو هي مقالات في هيئة قصص قصيرة مستوحاة من ترندات فضاء المنصات الاجتماعية ولا تمثل أي شخصيات أو أحداث حقيقية.
bottom of page